هل المعرفة هي اعتقاد مبرر؟

عادة حينما تطرح مسألة المعرفة موضع نقاش، يتبادر إلى الذهن سؤال : ماهية المعرفة ؟ وما الذي يجعل منها معرفة ؟، بصيغة أخرى، ما هي الشروط التي ينبغي توفرها في قضية ما لنقول عنها أنها معرفة؟ وهذا السؤال يقودنا بلا شك إلى سؤال يشكل جوهر الإشكالية عامة، ويتعلق الأمر بإمكانية الفصل بين المعرفة والاعتقاد، وما إذا كانت المعرفة اعتقادات مبررة؟

يظهر أنه على مدار تاريخ العلم أن هناك فصل بين المعرفة والاعتقاد، باعتبارهما متقابلين خاضعين لآليات مختلفة جذريا. حيث ينظر إلى العلم مثلا باعتباره نوذجا للدقة والوضوح، نتيجة لسيرورة استدلالية منطقية تفرض على الذهن تقبلها أو قبولها دون التفكير في المسوغات التي تجعله كذلك. في حين ترتبط الاعتقادات بالمجال الوجداني الباطني، الذي يأتي أو يتجلى كحصيلة للحدس والوهم أحيانا. وعليه فإن هذه المواقف والتصورات تنظر إلى المعارف كأنها صراع دائم بين ما نسميه علما وما يمكن أن نطلق عليه معتقد، وتنفي بإطلاق حصول اتفاق بينهما. ولعل أبرز المدافعين عن هذا التصور هو المتمثل في النزعة الوضعية التي تضح فصلا باتا بين ما ينتمي إلى مجال العلم وبين ما يقع خارجه. ففي اعتقاد المنتمين إلى هذا التوجه أن المعرفة تتمتع بخصائص مميزة، وأبرزها يكمن في إمكانية التعبير عنها بلغة علمية دقيقة لا تقبل اللبس، عكس الاعتقادات التي تنتمي إلى الحس المشترك ومجال الميتافيزيقا، التي تنفلت من كل تحديد دقيق؛ فهي خالية من المعنى، وبالتالي لا يمكن عدها معرفة. فكارناب مثلا وهو يعد من بين المؤسسين لهذه النزعة يعتبر بأن ” الاعتقاد لا يلعب دورا في الحياة العملية ولا في المعرفة على الاطلاق وذلك يرجع في نظره إلى أن الاعتقاد يتمثل في ” الوضع النفسي ” الذي يهيء للمعرفة بدون أن يتدخل فيها أو يساهم في بنائها. والمعرفة حسبه تقبل التعبير عنها في رموز لتتشكل كقضايا. أما الاعتقادات فإنها مماثلة لوضع الحدس؛ إما أنها تتعلق بحادث قابل لأن يعبر عنه في لغة ومن ثمة إمكانية تشكله كمفهوم أو غير قابل لذلك فيصير خارج دائرة المعارف.” ( بناصر البعزاتي، الاستدلال والبناء: بحث في خصائص البحث العلمية، ص 270) وإذن، كما هو واضح بالنسبة للوضعيين هناك قطيعة مطلقة بين ما ينتمي إلى المعرفة وما لا ينتمي إليها، وذلك رهين في اعتبارهم بإمكانية التعبير عن القضايا برموز صورية واضحة.

في مقابل هذه التصورات وغيرها، نجد مواقف تربط بين الاعتقادات والمعرفة، بحيث تعتبر المعارف هي في حقيقتها اعتقادات مبررة ومسوغة، وما يدعم هذا التوجه هو كون تاريخ العلم تطور ليس فقط من خلال النطريات العلمية الخالصة وإنما كانت في كثير من اللحظات ممتزجة بالاعتقادات. العجز الذي كان يطال بناء النظرية ثم الاستعانة فيه بالتفسيرات الاعتقادية، بل أكثر من ذلك، يكون الاعتقاد أحيانا إجابة شافية للأسئة لأنه يخاطب الوجدان ويربط تلك الأجوبة بالحياة العملية للإنسان. 

من هذا المنظور يصعب النظر إلى المعرفة اليوم على أنها خالية من الاعتقاد، بل يمكن القول على منوال بناصر البعزاتي :” يمكن الإقرار بأنه لا توجد معرفة مستقلة عن الاعتقاد، لا يمكن حصرها في قالب صارم ووحيد.” ( المرجع نفسه، ص 273) أضف إلى ذلك، أنه مهما حاولنا الابتعاد على هذه النظرة التوفيقية بين المعرفة والاعتقاد، فإن النظر إلى الطبيعة لا يتحقق خارج التكوين الذاتي؛ بحيث إن الذات هي المنتجة للمعرفة، الأمر الذي يجعل هذه الأخيرة رهينة شروط تاريخية، ثقافية، للجماعة العلمية التي تبنيها. إن الطبيعة لا تعبر عن ذاتها بشكل مستقل وموضوعي، وإنما الذات هي التي تعبر عنها بطريقة خاصة ومن خلال الأسلوب السائد، ولهذا ” لا تكون مسألة صدق قضية معينة أو كذبها بذلك الوضوح الذي تقدمه تعريفات المنطق الصوري الأولية.” ( المرجع نفسه، 273) وباختصار شديد لا يمكن عزل القوانين العلمية عن السيرورة الجدلية التي تنخرط فيها. 

أخيرا، يمكن الإشارة إلى أن التعاطي مع هذه القضية ( المعرفة والاعتقاد )، تجسد ضمن نطاق الابيستمولوجيا من خلال التقليدين في الفلسفة المعاصرة. يتعلق الأمر بكل من التقليد القاري ( ألمانيا / فرنسا ) والتقليد التحليلي ( إنجلترا / أميريكا ). بحيث نجد مثلا أن تحولا في بعض المواقف التي كانت تنظر إلى الاعتقاد كعائق أمام المعرفة العلمية ( باشلار مثلا )، سنلفيه يعدل عن هذا التصور من خلال أعماله المتأخرة منذ 1949( الماء والأحلام ) بحيث أصبح يولي اهتماما كبيرا لقضايا الخيال والابداع، وللدور التحريري الذي تلعبه الصور والخيالات… بعدها سيسترسل باشلار في تأكيد هذه الفكرة من خلال أعمال كثيرة : ( شعرية الفضاء ) و ( شعرية الحلم ) و ( شعلة القنديل ) ففي هذه الفترة كان قد شرع في النظر إلى الدعاوى العلمية من منظور اجتماعي… وبدأ يلتفت إلى أهمية البلاغة في الاستدلالات العلمية. والأمر ذاته مع التقليد التحليلي، حيث نجد طوماس كون خصوصا في كتاب ( التوراث العلمية ) ينزع إلى الاعتقاد بأن المعرفة العلمية محكومة بسياقات اجتماعية وسياسية، وربما بأطر إيديولوجيا تتدخل في بناء الاستدلالات العلمية. هذا ما يدفع الكثيرين إلى القول بأن طوماس كون تأثر بغاستون باشلار بخصوص العديد من الأفكار التي ضمنها في كتاب ( التورات العلمية ) علما بأن اللقاء الشهير الذي كان بينهما لم يكن سلسا ومثمرا.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *