أشكال من الأحصنة

 كان السحرة الرومانيون في عهدٍ ليس بقريب ذوي مواهب متعددة فمنها مثلاً أنهم كانوا يشقون بطن الحيوانات ثم ببراعة مُتقنة يجاهدون في إفراغ أحشائها، ذلكم للتمعن فيها ببصيرة ثاقبة قصد التكهن بالمستقبل البعيد، أي أنهم كانوا يُشخّصون الحاضر بغية بلوغ مآلات المستقبل رؤية جليلة، أما الكهنة منهم فكانوا يقسّمون السماء إلى ثنايا على شكل جدول من الخطوط والمربعات أشبه بالجداول التي نرسمها نحن اليوم على تطبيق الورد، وسطها يضعون عرش إله الآلهة وباقي الأجزاء مرتعٌ لأنصافها والكائنات المقدسة الأخرى تأخذ مكانها بالتساوي، كل هذا إنما يخلق في الأخيلة. 

غير أن هذا لا ينطوي على ما قصدت الكتابة عنه وإنما حكمة تُستفاد وربما يثوي شيئاً ما علينا إستكناهه وإستنطاقه ومحاورته وجعله شيئاً قابلاً للمس بالعقل لا بالحواس، حكمة الخيال ومفعولاتها في الأنا، الأنا ونزوعاتها، مناطها وكيفية إشتغالها، الواقع والخيال ودورهما في صياغة الآمال، إذ أنها تأخذ أشكال وكل الألوان فيها تصب في شخص واحد، ليغدو المرء يحمل في داخله صراع وكل معركة تنجم عنها معارك جديدة، أنا تحارب أخرى، وأنا متحالفة مع أنا أخرى، غير أن المسألة لا تتعلق بالحرب أو التحالف إنما على المآلات الناجمة عن كل منهما.

تنصاع الأولى للبروتوكول إنصياعاً ذليلاً لما يصدر من الأعلى منها، ليس لأنه أعلى في الداخل، إنما كذلك يتراءى لها في الخارج والخارج سلطان على الداخل، اللهم خضم الحضور، هذا ما تقوله الأولى وبما أن الخارج أعلى ويمارس إكراه إلاّ أن للداخل غايات يجب وبالضرورة بذل الجهد سعياً لها، فتنبجس هوة أخلاقية على نحو ما حين تتعارض الأنا الراغبة بحماسة وقوة في الإذعان لما هو حقيقي وواجب ولما للأنا الأخرى من غايات لا تتوافق والحقيقي، يقول لايبنتز ” المونادا تنطوي على نزوع من الإدراك الغامض إلى الإدراك الواضح”.

غير أن ما نحن في صدد الحديث عنه عكس ما قاله لايبنتز أو ربما يعوزه الجزء الثاني من العبارة، فكنه الصراع بين الأنا والأخرى إنما يتموقع على جهة النزوع، الأولى أميل للحقيقي والثانية للحلم الهوميروسي فكيف والتوافق، غير أن التحالف على العرض يتقاطع فيه النَّجدين، نجد الأنا الحقيقي ونجد الأنا الغائية مما يصيب العرض ليقدم نفسه على الخشبة، حصاناً قويماً يبدو نزيهاً متشكلاً من ثنائية الأنا، ثمة وراء الستار حيث تتنافس الأحصنة مع الأخرى ويأخذ الواقع بالآفول جارّاً معه القيم النبيلة. 

 يدعو ميشيل فوكو  إلى تشخيص الواقع الراهن ومحاولة فهمه واستنطاق ما يخفيه لأن كافة الحقائق دون غياب لأية منها تكون حاضرة دائماً ُمعرضة نفسها، دون احتشام وراء الستار، ماثلة على الخشبة، وما مهمة الفيلسوف اليوم إلاّ كشفها وفهمها وإزالة اللثام عن غايتها. ألم تكن غاية أوديسيوس من حصان طروادة صنع شيئاً قابلاً لاختراق العقل الصنمي وبث الوهم الخادع فيه دون أن يردف مواطني سكان طروادة: كيف؟ ولماذا؟، إلاّ أن هذا كله لا يعزو لحذق أوديسيوس ولا لذكائه الفطن فبالنسبة لهذا الأخير بتعبيرنا عنه بعبارة بول فاليرى  “العلة تفترس النتيجة والغاية تبتلع الوسيلة” وإنما جل العتاب لأولائك الحمقى اللذين يصطفون في حضيرة النشوة والحماسة نشداناً للمزيد وابتغاءً للراحة. 

على غرار جميع أنواع السيكلوبس (ابو الهول في الأساطير المصرية)  في المثولوجيا الاغريقية ما فتىء أوديسيوس الخبيث يعاصرنا، صحيح أنه اندثر منذ مدة وصحيح أيضاً أن لا شبه له مع المراهق والبريء لدوستويفسكي، غير أن أحصنته لها أرواح عدة، تعدو في الفكر منذ فترة، من حصان المُثُل إلى أحصنة الليتورجيين في العصور الوسطى مروراً على دعابة الروح المذهبية حتى نضجها واشتياد عودها، إن أمعن الناظر لشكل الحصان فلن يرى غير سحنته ولونه وجماله الفتّان، أمّا بالنسبة لتلك الزمرة من الأولمبيين الحاملين للمطرقة فقد وقفوا ضده لا غايةً في قتله بل السوط لمن يقبع في داخله بحثاً عن صانعيه. 

يمكن القول كذلك أنه رغم مجاهدة لوقف الحصان إلاّ أن ثمة أحصنة كثيرة وصلتنا إلى هذا العصر لا يمكن تميييز الحقيقي منها عن المزيف ولاسيما أن حصان أوديسيوس لم يحافظ على هيكلته السابقة فقد حدثت عليه تغييرات عدة سواء من ناحية الشكل أو ما يحمله في داخله فقد استخدمه أفلاطون كما شاء في استخدامه وراح يضيف فيه أحصنة صغرى داخله وصقل صلابته وشحذ قدراته على العدو بشكل سريع هارباً من السفسطائيين والشكاك إلى أن أفضى به أن كف عن الجري وأخذ استراحة وربما سبات طويل في الشرق. 

لا يخامر شك الإنسان العاقل أنه في خضم سباته الطويل قد تبدلت فيه أشياء كثيرة على مستوى الشكل مثلاً تم تغيير نوعية السرج وذلك حسب التقاليد المتباينة، ناهيك عن طليه بألوان مختلفة من الأصبغة ليتلائم والبيئة التي يسرح فيها، هذا عدا أن الدافع وراء كل هاته التغييرات يتباين حسب كل طائفة، وثمة من ذهب في محاكاة الحصان الأوديسيوسي ومجاهدة آخرين في صنع مثيله ووفقاً لهاته العمليات والتغييرات والمحاولات قد صار لنا محترفين في مهنة نحت الأحصنة الخشبية بل إن الأمر زاد اعجاباً لدى أصحاب السلطة وعليه راحت مدارس كثيرة تُشَيِّد بغية تعزيز مكانة هذه المهنة وإحضائها بالدعم من كافة من لهم مصالح في ذلك لأجل الأمة طبعاً.

على حين غرة صار الشرق كما الغرب كله أحصنة وكلها مزيفة وكلها محاكاة من حصان أوديسيوس، ربما الآن علينا أن نعترف بذكائه لأنه استطاع أن يبدع شيئاً استمر في الإبداع رغم أنه لا يبرر ضرورة وجوده إلاّ أننا متحمسين فالأولمبي والبروميثيوسيين هنا يأتي دورهم ويتفائلون بأنه أخيراً غدا من الممكن خوض تلك المغامرة الشرسة لصيد الوحوش وإزالة الأقنعة وكشف المزيف عن الحقيقي، يسارع بالقول أحد البروميثيوسيين:

هذا وقت الحصاد بل يا إخوتي وقت الحرث، إن الأحصنة الخشبية تعدو وبسرعة بل إنها عدوى مرض وباء ينتقل من ثقافة لأخرى بل قُل إنها أفكار من تلك التي تشبه سم الشكران الذي ابتلعه سقراط وهي بيننا وعلينا أن نشرع في الحرث وبالعمق جهد الامكان وقدر المستطاع لكشف زيفها وتعرية أصولها ومعرفة هشاشة متبنّيها، بل إنها بطالة كما قال نيتشه تلك التي ترى شيئاً مدنّساً وتسعى للرتابة والرضوخ وتسري في عروق العامة، وما الفيلسوف الجيد هو ذاك المنتصب بكامل قامته حاملاً لا مطرقة بل منشاراً لبتر أطراف ذاك الحصان، إنه سريع ولكن علينا بغذّ الخطى ونصب الشباك والمكامن وما من خطة ناجعة للإيقاع به سوى الإرادة تلك التي لا تشبع من المغامرة والبطولات وما تنفك تزداد، ففي حضارة الفايكينج كان من يموت وهو يقاتل في الحرب ويقتل ما استطاع من أعدادٍ كبيرة يُستقبل أحسن استقبال ويحظى بفرصة مشاركة النبيذ مع إله أودين وكافة الآلهة تلك النخبة المولعة بالدماء لا بل بالشجاعة و إرادة القوة جاعلة البشر يلهثون لنيل هاته المكانة السامية وإذا رب قائل يقول : من هي الأفضل؟ هل آلهتنا أم آلهتهم؟، أردفنا وبلا تورع  نقول بعد مسحة أجريناها على لجة التاريخ : لا بل النبيذ. 

إذا كان نيتشه قد ارتمى في أحضان الحصان الحقيقي الذي ينم عن حالة الإنسان التراجيدي عموماً، ضاماً له بيديه جاهشاً بالبكاء، تلك الدموع الحارقة التي تتساقط على خديه وترتطم بأنفه الأحمر معلنةً خسارة فادحة في أوج معركة ضارية فإنه كذلك يعلن آفول مشروعه. إن تلك الرسالة التي كتبها لوالدته على أن مشروع ارادة القوة قد سقط في الماء لهي خير حجة على سرعة النحاتين في نحت الأحصنة وعلى وهن قوته وهرمه كذلك أمامه إذ أن السقوط هناك لهي أيضاً دعوة ومطالبة لكافة البروميثيوسيين والأولمبيين لحمل المذرى ومطاردة صانعي الأحصنة.

بعد حديثنا المسهب عن الأحصنة لا مندوحة أن نروي لكم الكلمات النتشوية التي من خلالها قالت هي كلمتها الأخيرة :” الحصان مات ونحن من قتلناه ” هناك من ذهب إلى أن البروميثيوسيين لم يفهموا نيتشه فهو لم يقصد الله بل العقل وأنا أقول لهم لهاته مراوغة صانع الحصان فهو قد وضحها في كثير وكررها مراراً : إنه شيء إنساني بل مفرط في الإنسانية ولكن هنا المعنى جلي للعين المبصرة لقد ماتت ارادة القوة التي بإمكانها مطاردة الأحصنة، فحصان العلم هيهات منه لأنه قادم ليرفسكم جميعاً، أما بالنسبة لحصان أوديسيوس فتكمن ميزته أنه قدّم لنا نموجاً أصلياً وفقاً لتصميمه نجاهد لكشف زيف الأحصنة الأخرى.                                                             

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *